dimanche 26 avril 2009

الهوية الدنيوية المدنية للتنظيم القضائي الأمازيغي

*

* * *

الهوية الدنيوية المدنية للتنظيم القضائي الأمازيغي

* * *

*

بقلم : الأستاذ الصافي مومن علي

========

تتميز حملة الاستفتاء على مشروع الدستور الحالي لسنة 2011 ، عن سائر الحملات الدستورية السابقة ، بكونها اول حملة يطرح فيها النقاش بين المغاربة، المطالبين منهم بتنصيص هذا الدستور على الهوية المدنية للمغرب ، وبين المتشبتين باحتفاظه بهويته الدينية الاسلامية .

هذا وقد يعتقد بعض الناس ان هذا النقاش العلني طارئ في بلادنا ، وانه ناتج عن تاثر الاولين بالثقافة الغربية الحديثة ، غير ان قراءة هذه المقالة ، ستؤدي بهم بدون شك ، الى تغيير الكثير من مفاهيمهم السابقة ، لاكتشافهم ان المغاربة عرفوا هذا النقاش قبل عصر التنوير، بزمن طويل ، بل انهم مارسوا عمليا في حياتهم الطويلة ، انظمة سياسية عديدة ذات الهوية المدنية الغير الدينية ، كما يتوضح ذلك من محتويات هذه المقالة .

يشمل التنظيم القضائي الأمازيغي نوعين متميزين من القضاء هما:

1) – قضاء زجري

2) – وقضاء مدني

أولا: القضاء الزجري

يتميز هذا القضاء بصدوره من محاكم شعبية مختلفة هي:

1) – محكمة عليا تتألف من ممثلي المقاطعات المحلية التي تتكون منها القبيلة، وتختص بالنظر في الجرائم المنصوص عليها في التشريع القبلي العام المسمى "أمقن"

2) – محاكم محلية متكونة من ممثلي القرى الكائنة في المقاطعة المحلية التابعة للقبيلة ، وتختص بالبث في الجرائم المنصوص عليها في التشريعات الخاصة المسماة"اللوح" المنظمة لميادين مختلفة ، كالسقي والرعي وأماكن العبادة، وفتح مواسم الحصاد أو جني الغلات ، وغير ذلك من الشؤون المتعلقة بتنظيم المقاطعة.

3) – محاكم القرى المؤلفة من ممثلي الأسر والعشائر التي تتكون منها القرية، وتختص بالنظر في المخالفات المرتكبة ضد نظام القرية.

4) – محكمة أكادير أو محكمة المخزن الجماعي، وهي تتألف من ممثلي المقاطعة المحلية التابع لها حصن اكادير، وتتميز هذه المحكمة عن المحاكم الأخرى بخاصيتين هما:

- أنها تعقد جلساتها داخل الحصن.

- أن لها الولاية العامة التي تخول لها الاختصاص في الجرائم المنصوص عليها في"لوح" أكادير، وكذا الاختصاص في النزاعات المدنية المتعلقة بعقود البيع وسائر التفويتات والمعاملات المدنية الواقعة بداخل الحصن.

فقد نص ((اللوح)) الخاص باكادير صايصيض في الصفحة 25 ما نصه:

(( من ابتاع في الحصن أو باع فيه شيئا فليس له القاضي ، ولايفصلها الا في الحصن بأمنائه وأهل الحصن واللوح)) وهذا النص منشور في باب الاختصاص وفصل السلط من كتاب الواح جزولة للعثماني محمد السوسي.

ثانيا: القضاء المدني:

ويتعلق بقضايا الأحوال الشخصية والميراث وبعقود نقل الملكية والضمانات وسائر التفويتات والمعاملات المدنية، والتجارية والشغل.

ويتولى البث في هذه القضايا فقهاء يقع اختيارهم من طرف المتقاضين، في اطار مسطرة تحكيم.

والمدهش في هذا القضاء المدني أنه على عكس القضاء الزجري يتكون من ثلاث درجات للتقاضي حسب ما ورد في كتاب الواح جزولة الآنف الذكر، وكذا في كتاب:les sources du droit coulumier dans le sous للمؤلف: ج. لافون ، الذي كان يشغل وظيفة رئيس كتابة الضبط للمحكمة العرفية باكادير.

الدرجة الابتدائية ينظر فيها فقيه مختار يطلق عليه اسم "المحكم" أو "القاضي"

والدرجة الاستينافية يتولاها فقيه مختار آخر، يسمى "المفتي" مهمته اما تأييد الحكم الابتدائي أو الغائه والتصدي للفصل في القضية.

أما الدرجة الثالثة أو النقض فيقوم بها فقيه مختار ثالث يدعى "المبرز" يحسم القضية بحكم بات لا تعقيب فيه.

أجل الطـــعـــــــــــــن

يحق لمن خسر الحكم الابتدائي الطعن ضده بالاستيناف داخل أجل سنة من تاريخ صدوره، كما يحق لمن خسر الحكم الاستينافي ، أن يطعن فيه بالنقض داخل نفس الأجل.

اما احكام النقض أي الصادرة من طرف "المبرز" فهي احكام نهائية لا تقبل أي طعن.

وفيما يلي نص فتوى عدم جواز الطعن لفوات الأجل، منشورة في موقع قبيلة أيت امزال في الأنترنيت الذي أنشأه السيد محمد زلماضي المزالي تحت عنوان:

ZALMADI –MOHAMED @ hotmail . com

(( الحمد لله وحده وصلى الله على سيدنا محمد وآله.

فالحكم اذا بناه الحاكم على المحكوم عليه وقرئ عليه وفهمه، فقام وسكت عاما، ولم يكن مدعيا فيه بالفتوى ولا غيرها، ثم أراد الرجوع الى طلب الفتوى فيه، فليس له ذلك حسبما نص عليه خاتمة المحققين الشيخ سيدي عيسى بن عبد الرحمان السجتاني، والشيخ الإمام حلول، هذا في العام وأحرى أكثر وعليه فليس للفقير عمر بن امحمد الصباني من سييصيض أن يطلب الفتوى في الحكم الذي قام به عليه ابن عمه محمد بن امحمد بن سعيد النسب، الذي كتبه الفقيه القاضي سيدي سعيد بن احمد الافراني على وصيته الصائرة من والد عمر المذكور، لأنه مضى على تقييده ذلك نحوا من ثمانية أعوام حسبما ذكر في تاريخ المذكور، كان تاريخه في عام ستة وثمانين وألف (الموافق لسنة 1683 ميلادية)، وكتبه مجيبا بعدم لزوم الفتوى فيه عبيد ربه محمد بن احمد بن موسى الكرى وفقه الله.))

طرق التنفيد:

تنفيد الأحكام المدنية يكون اما اختياريا او جبريا الاختياري يقوم به المحكوم عليه برضاه، أما الجبري فيتولاه مجلس الأعيان بقيادة "امغار" القبيلة.

المقارنة بين التنظيم القضائي الأمازيغي وبين نظيره الاسلامي:

يختلف التنظيمان عن بعضهما اختلافا جذريا فيما يلــــــــــــي:

1)- القضاء في الاسلام تتولاه مؤسسة واحدة هي الحاكم أو من ينوب عنه من القضاة المعينين من طرفه للقيام بوظيفة القضاء اما القضاء الأمازيغي فان الشعب هو من يختار قضاته في المحاكم الشعبية المختصة في القضايا الزجرية بينما في القضايا المدنية يكون المتقاضون أنفسهم هم من يختارون الفقيه الذي يتولى النظر في قضيتهم في اطار التحكيم .

وبعبارة أوضح القضاة في الإسلام تعينهم السلطة الحاكمة ،اما في المجتمعات الأمازيغية فيتم تعيينهم بواسطة الإرادة الشعبية أو ارادة أطراف الدعوى.

2) –القضاء في الإسلام فردي في مختلف القضايا، أما القضاء الأمازيغي فهو جماعي في القضايا الزجرية، وفردي في القضايا المدنية.

3)- الأحكام في الإسلام غير قابلة لأي طعن، بمعنى أن رأي جمهور العلماء استقر على أن المحاكم في الإسلام تتكون من درجة واحدة، وأنه لا يجوز انشاء محاكم الدرجة الثانية التي تسمى محاكم الاستيناف، حسبما ورد في كتاب (التشريع الجنائي الإسلامي) الصادر من المركز العربي للدراسات الأمنية والتدريب بالرياض.

أما الأحكام في التنظيم القضائي الأمازيغي فيختلف الأمر فيما اذا كانت زجرية او مدنية، فالأحكام الأولى غير قابلة لأي طعن، بينما الثانية تقبله في ثلاث درجات للتقاضي كما سبق الذكر.

5) – رجال القضاء في الإسلام يشترط فيهم العلم بالقرآن وبالسنة وبفقه المجتهدين، أما القضاة الأمازيغ فالأمر يختلف فيمااذا كان القضاة أعضاء في المحاكم الشعبية المختصة بالبت في القضايا الزجرية، أو كانوا محكمين في القضايا المدنية.

فالقضاة الأولون هم على غرار قضاء المحلفين في الولايات المتحدة الأمريكية، يعتبرون أناسا عاديين، لا يفترض فيهم شرط العلم بالقانون الوضعي أو الديني، بل يشترط فيهم فقط النزاهة والاستقامة والصدق وحسن الأخلاق.

أما المحكمون في القضايا المدنية فيشترط فيهم الإلمام بالشرع الإسلامي من جهة، وبقواعد العرف الجاري بها العمل في المنطقة من جهة أخرى، لأنهم مطالبون في أحكامهم بمراعاة العرف المحلي.

6) – القضاة في الإسلام يستمدون شرعيتهم وقوتهم من السلطة الحاكمة التي عينتهم، أما القضاة الأمازيغ فيستمدونها من المواطنين الذين اختاروهم بارادتهم الحرة.

أصل التنظيم القضائي الأمازيغي:

اذا كان الامازيغ – وهم مسلمون – لم يستمدوا تنظيمهم القضائي من الإسلام، كما تجلى ذلك من المقارنة السابقة، فمن أين ياترى جاءوا به، ومن أي مصدر استمدوه؟ّ

لقد ظل هذا السؤال في ذهني بدون جواب موضوعي مدة غير قصيرة الى أن اطلعت على كتاب (( في تقسيم العمل الاجتماعي)) لاميل دور كهايم، فأدركت من خلاله الجواب.

فهذا الكتاب أبرز أن كل المجتمعات البشرية في بدايات نشوئها، كانت تكتفي فقط بتنظيم القانون القمعي المتعلق بالعقوبات الزجرية، لتركيزها آنذاك على الحفاظ على الأمن والسلام الاجتماعيين، أما القانون التعويضي او القانون المدني بوجه عام، فانه نظرا لانعدام او لندرة العقود والاتفاقات المبرمة بين أفراد المجتمع، لم يكن محط أي تنظيم من طرف هذه المجتمعات، وورد في هذا الكتاب أيضا أنه حينما تتعقد حياة هذه المجتمعات بسبب ازدياد كتافة سكانها وكذا ازدياد حاجياتهم.فانها تدخل مرحلة تقسيم العمل الاجتماعي التي تكثر فيها العقود والإلتزامات ، وما ينشأ عنها من كثرة النزاعات، فتضطر هذه المجتمعات حينداك الى التدخل لتنظيم القانون المدني بتشريعات خاصة.

اذن هذا الكتاب يوضح أن اهمال القانون المدني في التشريعات الأولى، كان يعتبر ظاهرة عامة لدى كل المجتمعات الناشئة، التي تظل في صفائها الأولى، ولم تصل بعد الى مرحلة التعقيد التي تفرض عليها التدخل الى تقسيم عملها الاجتماعي من جهة، والى تنظيم هذا التقسيم بموجب تشريع مدني من جهة أخرى.

وبطبيعة الحال كانت هذه الظاهرة هي التي أدت بهذه المجتمعات الى ترك المنازعات المدنية بيد أطرافها، ليبحثوا لها بانفسهم عن حل، اما رضائيا، أو بواسطة اللجوء الى التحكيم.

وما من شك أن هذه الظاهرة العامة هي التي أدت بالمجتمعات الأمازيغية الى الاكتفاء في تشريعاتها بتنظيم قانون العقوبات تنظيما دقيقا في صكوك مدونة ومكتوبة، وتترك القانون المدني بدون تقنين أو تدوين، لأنها لم تدخل مرحلة التعقيد التي تدفعها الى تقسيم عملها الاجتماعي، والى تنظيم هذا التقسيم بموجب تشريع مدني دقيق.

وهكذا فقبل ادراكي لهذه الظاهرة كنت اعتقد كسائر الناس أن المتقاضين الأمازيغ كانوا في النزاعات المتعلقة بالأحوال الشخصية والإرث والعقار وسائر المعاملات المدنية، يختارون الاحتكام الى الفقهاء في هذه القضايا، بدلا من محاكم ئنفلاس الشعبية، تنفيدا لأمر الشريعة الإسلامية، غير أنه تبين لي فيما بعد، أنهم يفعلون ذلك بسبب وجود فراغ في التشريع، الناتج عن اهتمام المجتمعات الأمازيغية كسائر المجتمعات الناشئة، بتنظيم القانون الزجري فقط، دون القانون المدني.

اما عن التجاء أطراف الدعوى في هذه المنازعات المدنية الى الفقهاء، فأرى أنه ليس حديث العهد، بل يعتبر تقليدا اجتماعيا يعود الى اعماق التاريخ، حيث كان الكهنة لدى جميع الشعوب هم من يتولون مهمة الفصل في كل النزاعات القائمة بين الناس، على اعتبار أنهم كانوا وحدهم آنذاك المحتكرون للعلم بالمعتقدات، وبأعراف الناس وبعاداتهم، ثم بفنون المعرفة بصفة عامة، وذلك بحكم انزوائهم في غالب الأوقات داخل المعابد والأماكن المقدسة، وعدم اشتغالهم بحاجيات المعاش اليومي مثل عامة الناس، وبطبيعة الحال كانت كل هذه المؤهلات المعرفية تفرض على الناس فرضا أن يستشيروهم في امور دينهم ودنياهم من جهة، وأن يلتجأوا اليهم للفصل في نزاعاتهم في اطار التحكيم من جهة اخرى.

وهكذا ولما بادرت بعض المجتمعات الى اختيار النظام الديموقراطي لتدبير شؤونها وقامت تبعا لذلك باسناد سلطة التشريع والقضاء الى مجالسها الشعبية المنتخبة، فان هذا الامر قد أدى بالكهنة الى رفع يدهم عن كل القضايا التي نظمتها التشريعات الجديدة، بمعنى أن هذه المجالس قد انتزعت من الكهنة اختصاص الفصل في القضايا التي أصدرت بشأنها تشريعات خاصة.

ثم لما كانت كل المجتمعات البشرية قد اقتصرت كما سبق الذكر على تنظيم القانون الزجري فقط، دون القانون المدني، فقد أدى هذا الفراغ في التشريع الى استمرار لجوء الناس الى الاحتكام الى كهنتهم في المسائل المدنية ، لسد هذا الفراغ.

وبطبيعة الحال لما كانت المجتمعات الأمازيغية من ضمن الشعوب التي اختارت هذا النظام الديموقراطي، فقد انتزعت من الكهنة مهمة الفصل في قضايا القانون الزجري، بعدما أصدرت مجالسها الشعبية تشريعات خاصة في هذا الشأن ، غير أنه لما ظلت هذه المجتمعات بسيطة في طبيعتها، أي لم تبلغ بعد مرحلة التعقيد التي تفرض عليها تقسيم عملها الاجتماعي، فإنها والحالة هذه لم تكن أمام الحاجة الملحة التي تدفعها الى التدخل لإصدار تشريع خاص بتنظيم القانون المدني، مما أدى بمواطنيها الى الاستمرار في الرجوع الى كهنتهم للفصل في القضايا المدنية.

وبعدما اعتنق الأمازيغ الدين الإسلامي اخدوا عنه العبادات من صلاة وصوم وزكاة وحج وغير ذلك، لكنهم احتفظوا بتنظيمهم القضائي القديم، الذي يختلف جذريا كما رأينا سابقا عن التنظيم القضائي الإسلامي .

اذن هذا الفراغ في التشريع هو الذي كان يجعل المتقاضي الأمازيغي الذي يقف امام محكمةئنفلاس الشعبية محقا في الدفع بعدم اختصاص هذه المحكمة للفصل في قضيته المدنية، مرددا العبارة المأثورة : (أنا بالله وبالشرع)، المستعملة عادة في اثارة هذا الدفع الشكلي، ويجعل بالتالي تلك المحكمة لا تملك الا أن تصرح بعدم اختصاصها، لعدم توفرها على تشريع خاص ينظم القانون المدني، وحينداك يصبح هذا المتقاضي محقا ايضا في اللجوء الى تحكيم الفقهاء، باعتبارهم المؤهلين موضوعيا للفصل في قضيته المدنية، بحكم المامهم العميق بشرع الإسلام الذي هو دين مجتمعه، وكذا إلمامهم باعراف هذا المجتمع وبعاداته، وذلك على غرار اجداده القدامى الدين كانوا قبل الفتح الإسلامي يحتكمون الى كهنتهم في مثل هذه القضايا.

وهكذا يبدو من خلال كل هذه المعطيات التاريخية والواقعية أن التجاء المتقاضين الى الفقهاء المحكمين، في قضايا الأحوال الشخصية والميراث ونقل الملكية وغير ذلك من المعاملات المدنية، لم يكن بدافع هاجس ديني، وانما بسبب وجود فراغ في تنظيم الميدان المدني بتشريع خاص، لأنه لو كان الأمر يعود الى هذا الهاجس الديني كما يعتقد، لما اكتفى الناس بالرجوع الى الفقهاء في القضايا المدنية فحسب، بل يرجعون اليهم حتى في القضايا الزجرية، لأن الإسلام خول للقاضي حق الولاية العامة، للنظر في جميع القضايا كيفما كانت.

المقارنة بين التنظيم القضائي الأمازيغي وبين نظيريه اليوناني والروماني:

في الوقت الذي يلاحظ فيه ذلك الاختلاف الجذري بين التنظيم القضائي الأمازيغي ونظيره الإسلامي، فانه على العكس من ذلك يلاحظ وجود تطابق شبه تام بين التنظيم الأمازيغي ونظيره اليوناني والروماني.

وهذا التطابق يتمثل فيما يلـــــــــــي:

1) – اشتراك هذه التنظيمات الثلاتة كلها في تقسيم المحاكم الى زجرية والى مدنية.

2) – اشتراكها في جعل القضاء الزجري جماعي، يتألف من محكمة شعبية عليا، ومن محاكم شعبية محلية، واشتراكها أيضا في جعل القضاء المدني فردي، يتألف من محكمين.

3) – تطابقها في اقرار نظام درجات التقاضي في احكام المحكمين.

4) – اشتراكها في اضفاء طابع الحرية في اختيار القضاة، وذلك باعطاء كل من الشعب والمتقاضين حق اختيار قضاتهم بإرادتهم الكاملة.

اتسام التنظيم القضائي الأمازيغي بالهوية الدنيوية غير الدينية:

ان التشابه الموجود في ميزات التنظيم القضائي الأمازيغي ونظيريه اليوناني والروماني، يفضي حتما الى نتيجة منطقية مفادها وجود كذلك نفس هذا التشابه في طبيعة هوية هذه التنظيمات.

ولذلك لما كانت كل المصادر التاريخية التي تحدثت عن النظام القانوني اليوناني والروماني، تصنف هذين النظامين ضمن الأنظمة القانونية المتسمة بالصبغة الدنيوية، استناذا الى اتصافها بالميزات السابق ذكرها، فان اتصاف التنظيم القضائي الأمازيغي بنفس الميزات يجعله بديهيا مصنفا كذلك ضمن هذه الأنظمة، استنادا لمعادلة البرهان المنطقي التالية:

اذا كان ا = ب ، وكان ب = ج فان ج = ا.

بمعنى أن تطابق تنظيمات هذه الشعوب في ميزاتها، يؤدي منطقا وبداهة، الى التطابق في طبيعتها وفي صبغتها.

ومن جهة اخرى، نظرا لندرة المصادر التاريخية التي سلطت الضوء على النظام القانوني الامازيغي القديم، أعتقد أن هذا التطابق الموجود في ميزات وفي طبيعة هذه التنظيمات القضائية الثلانه، يجعلنا نقترب اكثر من فهم حقيقة التنظيم القضائي الأمازيغي، عن طريق فهم الأنظمة القانونية اليونانية والرومانية، وكذا فهم تحولها من الطابع الديني الى الطابع الدنيوي .

فلنترك اذن المؤرخ ويل ديورانت في كتابه قصة الحضارة، يصف لنا هذا التحول في المجلد رقم: 7-8 الخاص بحياة اليونان:

(( كان القانون اليوناني جزءا من الدين، غير أن مشترعين كبار أمثال زالولسوس، وكرونوداس، وداركون، وصولون، قاموا بتدوين تشريعات جديدة، فتحولت القوانين بذلك من صنع المقدس، الى صنع الإنسان، وتحرر القانون من سيطرة الدين، وازدادت على توالي الأيام صبغته الدنيوية))

وفي فقرة أخرى أضاف قائلا:

((وهكذا بعدما تحول اليونان الى نظام الحكم الديموقراطي، كان أعظم اصلاح قام به ايفيليتز، وبيركليز، هو نقل الحقوق القضائية الى الهيلية، أي الى المحاكم الشعبية، وكان انشاء هذه المحاكم هو الذي وهب أثينا ذلك النظام القضائي الذي أخدت عنه أوروبا نظام المحلفين الذي عاد عليها باالخير العميم))

أما في المجلد رقم : 9-10 المتعلق بالحضارة الرومانية، فيقول فيه:

((كان القانون الروماني فرعا من الدين، ولم يكن يحدد العلاقة بين الناس بعضهم بعضا فحسب ، بل كان يحدد فوق ذلك العلاقة بين الالهة والناس، وكان الغرض من القانون ومن العقاب هو الاحتفاظ بهذه العلاقة، وعدم تعكير صفوها، وكان الكهنة هم الذين يعلنون ما هو حق، وما هو باطل، وكانت كل المسائل المتعلقة بالزواج والطلاق والوصايا ونقل الملكية وغير ذلك من الحقوق، كانت كل هذه المسائل لا بد من عرضها على الكهنة، وكان هؤلاء الكهنة هم وحدهم الذين يعرفون القوانين والسنن، وكانوا في روما هم المستشارين القانونيين..........

ولقد احدثت الألواح الإثني عشر انقلابا قضائيا مزدوجا، ذاك أنها اداعت القانون الروماني ونشرته، ثم أنها صبغته بالصبغة الدنيوية غير الدينية))

اذن من خلال هذه الإطلالة التاريخية على القانونين اليوناني والروماني يمكن القول أن القانون الأمازيغي قد مر بدوره بالمراحل الثلاثة التالية:

1) – مرحلة الخضوع المطلق لسيادة القانون المقدس، وما يورثه من خضوع للكهنة الذين يملكون هذا القانون، ويملكون بالتالي حق تقرير ما هو حق، وما هو باطل، واعتقد ان هذه المرحلة قد مرت بها جميع شعوب الارض كما ورد ذلك في كتابانجلس ، ( اصل العائلة والملكية الخاصة والدولة )

2) – مرحلة استرجاع المجتمعات الأمازيغية لسيادتها، وتقريرها بالتالي حكم حكم نفسها بنفسها ديموقراطيا بواسطة مجلس شعبي عام، ومجالس محلية خاصة بتدبير شؤون مقاطعتها الترابية.

غير أن المدهش في هذه المرحلة هو تقرير هذه المجتمعات تحررها من عقوبات القانون المقدس المتعلقة بانتهاك الحقوق الطبيعية للإنسان، واستبدالها بعقوبات أخرى محددة في تشريعات وضعية أصدرتها مجالسها الشعبية، ثم قيامها بانتزاع سلطة الفصل في القضايا الزجرية من الكهنة، وإسناد هذه السلطة الى مجالسها الشعبية المختلفة.

اذن فالأمر الذي أصبغ على هذه المجتمعات الصبغة الدنيوية أو هوية النظام المدني بلغة هذا العصر، هو تحرير تشريعاتها من التأثير الديني، أي عدم جعلها القانون الديني مصدرا عاما للقانون .

وهذا حقا ما أدهشني في هذه المجتمعات، اذ أنها كانت تجمع الهوية الديموقراطية، والهوية الدنيوية المدنية في نفس الوقت، وذلك على اعتبار أن هذا الجمع كان ولا يزال يعتبر من الأشياء النادرة قديما وحديثا، خصوصا اذا ما أدركنا الفرق الكبير الموجود بين هاتين الهويتين، اذ كما هو معلوم ليس كل مجتمع ديموقراطي هو بالضرورة دنيوي، والعكس بالعكس، بمعنى أنه يمكن أن يكون هناك مجتمع ما ديموقراطيا ولكنه غير دنيوي، كالشعب الإيراني مثلا، كما يمكن أن يكون دنيويا، ولكنه غير ديموقراطي، كالدول الشيوعية، التي يحكمها حزب وحيد.

3) – أما المرحلة الثالثة فهي فترة الفراغ في التشريع التي نجم عنها عدم تنظيم القانون المدني بتشريع وضعي خاص، مما أدى بالمواطنين أمام هذا الفراغ الى الاستمرار في اللجوء الى كهنتهم للفصل في القضايا المدنية بواسطة التحكيم، فتولد عن هذا الوضع ميلاد تنظيم قضائي جديد يقسم المحاكم الى نوعين:

- محاكم زجرية تتالف من هيئات شعبية .

- محاكم مدنية تتكون من المحكمين الكهنة.

غير أن جو الحرية والمساواة الذي جلبه النظام الديموقراطي الذي اختارته هذه المجتمعات الأمازيغية، قد انعكس على أحكام الكهنة، فلم تعد استبدادية تحكمية لا تقبل أي طعن، كما كانت من قبل، بل وقع طبعها بالمرونة والنسبية، فأخضعت بالتالي الى ثلاث درجات للتقاضي : ابتدائية واستينافية ونقض، كما سبق توضيح ذلك انفا.

4) – مرحلة اعتناق هذه المجتمعات للدين الإسلامي، واحتفاظها بنفس التنظيم القضائي القديم، الذي أصبح فيه الفقهاء الإسلاميون يقومون فيه بدور التحكيم في المنازعات المدنية.

هذا وما من شك أن التسليم بتشابه التنظيم القضائي الأمازيغي مع نظيره اليوناني والروماني، سيدفع بالبعض الى التسرع في اصدار الأحكام، عن سر هذا التشابه، منهم من سيعتقد أن سببه هو تأثر الأمازيغ باليونان والرمان، ومنهم من سيظن عكس ذلك.

غير أن قراءة كتاب "في السياسة" لأرسطو، تبين لنا أن هذا الفيلسوف سبق أن أجاب عن هذا السؤال بصيغة اخرى بعيدة كل البعد عن فرضية تأثر أحد الفريقين بالآخر، وذلك بتأكيده بعد دراسته المستفيضة لتشريعات اوروبا وشمال افريقيا ومقارنتها بتشريعات اسيا، أن شعوب أسيا تتخلق باخلاق الارقاء أكثر من شعوب أوروبا الشيء الذي جعل تلك الشعوب أكثر انقيادا الى الحكم السيدي الطغياني.

وهكذا ولما سبق لأرسطو في نفس هذا الكتاب أن صنف نظام الحكم في كرخدون أي قرطاج، ضمن الأحكام الشعبية الديموقراطية، لاستناذ هذا النظام على مبدأ الحرية والمساواة، معتبرا اياه هو والنظام الكوني وكذا النظام الكريتي من بين الأنظمة الثلاثة التي تقدر وتجل فان ذلك يقود الى استنتاج أن شعوب شمال أفريقيا كانت قبل كشعوب اوروبـا لا تسود فيها في عهد أرسطو أخلاق الأرقاء، ولا الانقياد الى الحكم السيدي مثل شعوب آسيا.

وأعتقد أن ارسطو لو كان قد قارن النظم القانونية السائدة في شمال افريقيا آنذاك، وبين نظام مدينة قرطاج، لتوصل الى نتيجة كون النظام الشعبي في هذه المدينة ما هو الا صورة مكبرة ومعقدة لتلك النظم الشعبية الديموقراطية، التي كانت منتشرة في هذه الربوع منذ القدم ، والى حدود القرن العشرين.

وعلى كل حال ففي مقالتي السابقة ((الميزات العقلانية لنظام التشريع الأمازيغي)) سبق تأكيد أن النظام الديموقراطي العادل الذي يؤدي بالمجتمعات الى العيش في ظل المساواة والكرامة والسلام والسعادة الاجتماعية، كامن في العقل، وأنه ليس من صنع أو ابتكار أي انسان أو أي شعب، ولذلك فالمجتمعات التي تعود الى العقل وتنتظم بالمبادئ المنقوشة فيه، تنتقل حتما من نظام القطيع الإنساني المغيبة فيه تلك الفضائل الى نظام المجتمع الإنساني المتمتع بها .

ومن هنا يبدو أن السر في اتصاف التنظيمات القضائية الأمازيغية واليونانية والرومانية بالميزات الإيجابية المذكورة آنفا، وتصنيفها بالتالي في اطار النظم الدنيوية أو المدنية، هو تخليها في تشريعاتها عن نظام القانون الديني الذي كانت تعمل به سابقا، والرجوع الى العمل بالنظام الديموقراطي العادل المنقوش في العقل.

==================

Aucun commentaire:

Enregistrer un commentaire